السبت، 22 ديسمبر 2018

قصة قصيرة ( نافذة من الجحيم ) ** الشاعر ** عبد الحميد العامري

قصة قصيرة

نافذة من الجحيم

إنتفضت الصغيرة من نومها فزعة كأنَّ تيارا كهربائيا لامس جسدها وانفجرت بالبكاء 
لم تستطع أن تقف على قدميها 
فعمرها لم يتجاوز الشهر التاسع.
وفزعت الأم تتحسس أجساد أطفالها وسط هذه العتمةالداكنة كوجه هذا الليل الكئيب،
هي أيضاً هالها ماسمعت ، تشعر 
بأن جسدها كله يهتز ، جلست على الأرض بعد أن اختارت إحدى زاويا هذا الكوخ الحجري
المتهالك ،لتتكوم فيه وهي تحضن طفلتها وبجانبيها طفليها الآخرين اللذيَن لم يتجاوزا العقد الأول من عمريهما،
هي أيضاً تشعر بحاجتها للأمان
وكأن الطفلين يشعران بما عليهما أن يقدماه في هذا الموقف من الحماية رغم حاجتهما الماسة إليها،
فبعض المواقف تجعل الصغير ينسى صغر سنه وضعفه وانكساره
ويتجاوز سنوات عمره المعدودة بأقل من أصابع اليدين مجتمعه
وكذلك نحن الأكبر سنا
فليس كوننا كبارا يجب أن نتجاوز بعض الأحتياج، فلربما تمر علينا لحظات نشعر بأكثر مما يشعر به الصغار من الحاجة  والضعف والإنكسار ، بل تتجاوز حاجتنا كل تلك المشاعر والمكان والزمان واللحظة ذاتها ،

عيناها تتوجس خيفةً وهي ترهف السمع إلا من دقات قلبها،
وهي ترجف بعنف وغضب، سلاحها الوحيد ، وقارب النجاة
لها ولأطفالها الثلاثة، 
أنهم مازالوا على قيد الحياة،
تتحسسهم بأصابعها المرتعشة،
وهي تتمتم بصمت ، يا الله
مالنا سواك .

تبا لكم ولصراعكم المجنون،
ما الذي جاء بكم إلينا !!!
إذهبوا بجحيمكم بعيدا عنا،
ماذا تريدون منا؟؟!!
بالأمس كنتم السبب في موت إمرأتين لا ذنب لهما، 
سقطتا أشلاء متناثرة واختلطتا مع حجارة وأخشاب  المنزل وغطاهما كوم من التراب،  لم يتعرف المسعفون على جسديهما مطلقا،

ما الذي جلبكم إلينا لتحملوا إلينا كل هذا الموت والدمار والفزع ؟

ألم يكفكم أننا تركنا لكم كل شئ
المدينة والبذخ والثراء !!!

واكتفينا هنا ببؤسنا وفقرنا ومعاناتنا لكي ننعم بقليل من الهدوء ، 
أَكَبُرَ عليكم هذا؟؟؟!!!
أو هو كثير علينا؟

رجالنا اختاروا شظف العيش ومرارته وهاجروا لكي نستطيع  أن نواصل حياتنا بعيدا عن عبثكم ،
ونحن هنا أخترنا الهدوء والسكينة ،
وها أنتم أيضا جئتم لكي تقلقوا سكينتنا وتقتاون من فزعنا وأشلاءنا !!!!

مالذي يشكله هذا الريف النائي من أهمية لديكم؟؟
هذا الريف الذي لم تعرف بوجوده ولم تلتفت إليه حتى الحكومات التي سبقت وجودكم،

هذا الريف الذي لم تشعر يوما أي حكومة بأنه موجود على خارطتها ،
وبأن هنا مجموعة من البشر يعيشون فيه ،
 وهم بحاجة إلي خدماتها وخيراتها،
والنظر إليهم بأنهم ضمن مسؤلياتها ،
وبلحظة لا سابق لها نجد أنفسنا
تحت رحمة قذائفكم نواجه الموت والخوف بكل لحظة،

وكأننا نحن الذين علينا دائما أن ندفع الثمن، 

نحن البؤساء والذين لا طموح لنا في حكم أو سلطة أو ثروة، أو خيراً يأتي من قبلكم ،
لماذا تزجُّون بنا في هذه الحرب؟؟

ألتفتت إلي طفليها وهي تمسح دموعها وبالكاد تراهم،
فلم تعد تشعل المصباح،
 لقد انتهى الزيت الذي بداخله منذ أسبوع،
والطريق الوحيدة إلي السوق مغلقة ،ولم تعد آمنة لسير العربات، وأصحابها غير قادرين على المجازفة بأرواحهم،

تذكرت أنه لم يتبق لديها ولأطفالها سوى قليل من مؤنة للأيام القادمة،

أجتمعت عليها كل مصائب الحياة وإنكساراتها وبؤسها وشقائها في لحظة، 

لحظة من الزمنْ ولكنها أكبر من عمر الإنسان نفسه ،
زوجها منذ غادر إلي عمله في المدينة قبل أشهر لم يعد بعدْ، ولا يستطيع العودة في الوقت الحاضر بسبب ظروف الحرب ،
فهو يتواصل معها فقط عبر الهاتف المحمول ،وبالكاد تحصل على مكالمة لاتتخللها إنقطاعات الشبكة ،
كانت تحلم يوما أن يكون لها ولأولادها وزوجها منزلاً في المدينة،
 ولكنها حمدت الله أنها لم تغادر القرية، بعد أن رأت الكثير من الأسر عادت فرارا من الحرب ،
ولكن بالرغم من ذلك فهاهي الحرب تلاحقهم حتى إلي الجبال والقرى  والأرياف .

لم يمض الليل بعد،
هاهي مازالت تحصي ثوانيه بالتوازي مع دقات قلبها المرتجف ، 
لعل الأطفال أستعادوا الشعور بالأمان وهم في أحضانها ،
ويداها ممدودتان تحيط بهم وتربت على رؤسهم ، 
صوت المدافع يتغلغل إلي أعماق المنزل من تحتهم فيهز الأبواب والنوافذ ، والظلام مخيمٌ فوق رؤسهم يضاعف ما يشعرون به
من الخوف والقلق والعذاب،

 لاشئ يطمئنهم ويهدئ من روعهم وسط كل هذا الجحيم سوى ذلك اللمعان السريع الذي يخترق الشقوق فيضيء لهم المكان كي يلمح بعضهم البعض لأقل من ثانية فيطمئنوا أنهم مازالوا بخير ،وسوى تلك الأنفاس المكبوتة التي تلامس وجوههم في الظلام.

عبدالحميد العامري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن خطاب…مشاركتي بتطريز كلمة.. (أشواق)

مشاركتي بتطريز كلمة..   (أشواق) أشتاق للفجر كي أشتمَّ نسمتها  وأرقب الصبح كي أحظى بلقياها  شوقي ديارٌ وما زالت تراسلني  عبر النسيم ونبض القل...