خرجت مريم بقلم الكاتبة فادية حسون
خرجت مريم من مكان عملها بعد انتهاء الدوام الرسمي .. وتوجهت إلى البقال الذي اعتادت أن تشتري منه بعض السكاكر والشيبس والبوالين لطفليها اللذين يمكثان في المنزل مع زوجها الذي أخذ إجازة قصيرة من عمله .... لأول مرة في حياتها كانت تعبئ أشياءها بالكيس بينما يتملكها القلق والشرود كأسير فقد الأمل بالانعتاق ..... بعد دقائق نظرت إلى الكيس الذي في يدها ..فرأته قد اكتظ بكل مافي البقالة من أنواع .. شعرت أنها ليست هي التي عبأت الكيس ..سولت لها نفسها إعادة قسم منها ..لكنها خجلت وقالت في نفسها لابأس فسيفرح الأولاد بهذه الكمية من المأكولات .. أعطت البائع ورقتين نقديتين من فئة الألف ليرة سورية ثم مشت دون أن تلتفت لصوته مناديا إياها أن تأخذ بقية النقود .. كانت تمشي واجمة كسجين أخبروه بموعد إعدامه ... .. شيء ما دفع روحها للانقباض والتقلص .. شعرت للحظات بصغر كل ما حولها .. كانت تعد أحجار الرصيف تارة .. وتتعثر بظلها تارة أخرى ... لكن الشيء الذي كان يبدد قلقها صورة طفليها وهما ينقضان على ما تحمله لهما من ملذات مختزنة في الكيس الكبير ... سمعت فجأة وقبل أن تصل إلى حيها صوت انفجار مدو هز كيانها ... وأسقط ما بيدها من أشياء على الأرض .. تملكها ذعر غريب .. تشبث نظرها في الفضاء ..حيث الدخان الأسود المتصاعد مع لهب أحمر مخيف .. وحيث قطع الأثاث تتعالى باتجاه السماء ثم تهبط متناثرة ... تعالت الأصوات .. تسمرت في مكانها .. حاولت قراءة وجوه الفارين خارج الحي .. التصق لسانها بحلقها .. طلبت نفسها الماء ...بدأ قلبها يضرب بشدة مبالغ فيها ... و بيد متثاقلة حملت أشياءها وتابعت المسير باتجاه بيتها ... ازداد ذعرها لدى سماع سيارات الإسعاف تدوي ككلب مسعور جلب لها شؤم الكون بأكمله ... حاولت تجاهل نظرات العطف التي قرأتها في وجوه من يعرفها من الجيران ...وفجأة.. وصلت مريم ... حدقت باحثة عن منزلها ... رأته ركاما ... صرخت من صميم روحها ... أين أطفالي ..أين زوجي .. تجمهر الناس حولها .. محاولين منعها من الدخول وسط النيران ... رأت فجأة دمية رهف ابنتها ذات الربيع الرابع ملقاة بين الركام .. صمتت ... حدقت بها متسائلة عن رفيقتها ...تلمست شعر الدمية الدامي ... جفلت من أعماق روحها ... لابد أنها دماء رهف .... بالأمس كانت تخيط لها ثوبا ... وتمشط شعرها ...وتحادثها واعدة إياها أن ترافقها الى مدينة الملاهي ... أين رهف الآن ... بل أين محمد ..؟؟ في الصباح تمسك بي باكيا ...اراد مرافقتي الى العمل ... وأنا أغريته بجلب بعض الأشياء التي يحبها حين عودتي ... هاأنذي أحضرت لك ما طلبت يا بني ... تعال .. افتح الكيس .. وانتق ما تشاء .. خذ السكاكر الملونة التي تعشق ... والبوالين ...خذها وتعال ننفخها سوية ... ونتقاذفها معا في أرجاء المنزل ... فراس ... زوجي الحبيب ..انهض وافتح لي الباب ... استقبلني بابتسامتك المعهودة ... قل لي كعادتك حمدا لله على سلامتك أم محمد ... قل لي كعادتك لقد بدأت بتجهيز الطعام تعالي لنكمله معا ... جثت مريم منهارة على ركبتيها ..وسط جموع المذهولين المفجوعين من الناس .. ...صرخت بأعلى صوتها : يا الله .. أين عائلتي .. أين طفلاي ... أين زوجي .. بالامس جلسنا معا على شرفة المنزل .. تناولنا قهوة المساء ... بينما كان طفلانا يتابعان برامج الأطفال .. الآن قد أصبحوا ركاما ... وأشلاء ... نظرت يمينها لترى قطع الأثاث مترامية في كل الأطراف ... وعلى يسارها أوانيها المطبخية .. وتراب ملطخ بدماء من تحب ... رمت عاليا بكيس المأكولات ليتناثر فوق الركام وهي تصرخ بطريقة أبكت الحجر ... كان آخر شيء أبصرته عيناها قبل ان تسقط مغشيا عليها .. صور ثلاث نقالات تحمل جثامين أسرتها المتلاشية بلحظة حقد ...
قصة واقعية حدثت قبل سنتين لأناس أعرفهم في مكان ما من وطني الجريح...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق