السبت، 24 أغسطس 2019

دمعة وإبتسامة // بقلم الأديب المبدع // الدكتور محمد القصاص

دمعة وابتسامة
بقلم
الدكتور محمد القصاص
قبل أن أبدا بكتابة هذا الموضوع ، أردتُ أن أنوه بأن هذا العنوان هو عنوان رواية لجبران خليل جبران ، لكني حين عزمتُ على الكتابة ، لم أجد أجمل من أن أجعل هذا عنوانا لموضوعي أيضا .
الدمعةُ حين تغصُّ بها العينُ ، لها سحرٌ يصنعُ المعجزاتْ في مناسبات وظروف ، يحكمها الزمان والمكان ، لأنَّ الدمعةَ حينما تهلُ من بين الأجفان وتنحدرُ على الوجناتِ ، تصبحُ ملكا للآخرين ، ومن ينظرُ إليها ويرقبها ، يقرأها على طريقته ، بحيث تكون له أحاسيسهُ الخاصة به التي تتناغم مع مشاعره ، ومن هنا تتفاوتُ مدلولاتها وخصائصها في نفسية الإنسان كل بحسب فهمه .
كنت فيما سبق ، قد شرحت وجهة نظري بالنسبة للدمعة ، وقد ارتأيتُ بأن الدمعة حينما تنهلُّ من الجفن ، تكون أصدق حينما تسبقها ابتسامة خفيفة تفتر عنها الشفتان ، وكثيرا ما نلحظ هذا ، والابتسامة هي محاولة صادقة ، كي تخفي وراءها دمعةً حرَّى كالنار ، الغاية منها ، إخفاء آثار الحزنِ والهمِّ والشقاء لدى الباكي قدر المستطاع .
الدموعُ ليس لها قوانين ولا أنظمة تحكمها ، لكنها عبراتٌ ، تنهلُّ بها المآقي في لحظات حزنٍ أو قهر أو ظلم ، وفي مثل هذه الظروف ، فلا يمكن السيطرة عليها أبدا .
والدموع عند المظلومين ، لا يماثلها من حيثُ صدقها إلا دموعُ بعضَ الأطفال ممنْ تربوا على الفضيلة والصدق والبراءة .
لا شكَّ أن دموع التماسيح (وهي الدموع الكاذبة) ، تملأ الأرجاء من حولنا ، وقد نراها في كثير من الأحيان ، لكن مهما بلغت من الغزارة والأحاسيس فلا تحمل نفس المؤثرات التي تبلغ في النفوس والقلوب مبلغها ، لأنها أوضح من شعاع الشمس عند الظهيرة .
هناك دموعٌ مدفوعة الثمن مسبقا ، والغاية الأساسية منها ، هو الوصول إلى غاية في نفس يعقوب ، ولعل الكثير منا يعرف قضية استئجار البواكي والنائحات اللواتي يقمن بإحياء المآتم مقابل الأجر، حيث يملأنها نواحا وصراخا ودموعا .
ومثل هذه العادات ، كانت موجودة إلى عهد غير بعيد في بعض الدول العربية وربما لغاية الآن ، لكنَّ الأهم في الموضوع ، هو التركيز على الدموع التي تفتر من المآقي بصدقٍ لا يخالطه شكٌ ولا تمثيلٌ ولا كذبٌ أبدا .
الظلمُ والألم والقهرُ كلها تعتبر من أهم المسببات التي تستنزفُ الدموع لدى الإنسان السويّ ، فلا تقتصر على نوع أو جنس أو ملة أو دين ، ولا على جغرافيا أو وطن ، بل فإنَّ كلَّ الناس يتساوون بالمشاعر والأحاسيس ، في حين أنَّ درجاتها تتفاوتُ بين إنسان وإنسان ، وقد شاهدنا أمثلة كثيرة من هذه النماذج ، ولعلنا شاهدنا بشرا لا تندى أعينهم تحت أي ظرف من الظروف ، بينما آخرين نراهم وقد ملئوا الدنيا صراخا وعويلا ونواحا وبكاء ، ونوع آخر قد يكون إلى الصدق أقرب ، إذ تفترُّ مآقيه عن دموع الحزن والقهر بهدوء تام ، من خلف ابتسامة بريئة ليست مقصودة ، لكنها جاءت مثلما أسلفت لتخفي وراءها هما تخرُّ من ثقلهِ الجبال .
ما استفزني اليوم لكتابة هذه الموضوع ، هو هذه الدموع التي تنحدر على وجنات أحد أبنائي وهي بالصورة التي أمامكم تنحدر من محاجر عيونه أيام طفولته وربما في يوم كنت قد تأهبت للفراق ، في غربة تبعدني عن أطفالي قد تطول وتقصر في تلك الأيام ، وقد أصبح اليوم هو شاباًّ ، وقد أصبحت الظروف اليوم عكسية تماما إذ أصبح هو يعيش اغترابا أدمى فؤادي ، وهذه الدموع التي ترونها هي أرجعتني إلى الوراء سنواتٍ عديدة ، واستفزت المشاعر والقلب والوجدان ، نظرت إليها بالأمس طويلا حيث قامت شقيقته بوضعها بمناسبة هي من أعز الأيام على قلبي مناسبة ذكرى ميلاد (معاويه)، والتي صادفت في اليوم العشرين من شهر آب الحالي ، على أيةِ حال فأنا لم أدرك سبب تلك الدموع في ذلك الزمن ، ولم تعد لذاكرتي تلك اللحظات التي كانت سببا لاستنزافها من عيون أحد أطفالي الغوالي على قلبي ، لكن ما استفزني فيها هو صدقها وهدوئها ، ابني الحبيب (معاوية) ، كانت طفولته والله ملائكية إلى أبعد حدّ ، كان بريئا هادئا حنونا قريبا من القلب يحبه كل من رآه ، ومازال هذا الشقي يشغل بال الكثير من طفولته وإلى الآن ، هو لم يكن شقيا ولا كان قاسيا ولا ميالا للفوضى ولا العناد ولا المشاكسة. الله .. الله ، ماذا فعلت هذه الصورة ، وكم أثَّرَتْ بمشاعري ، حتى استفزتني تلك الدموع ودفعَتْ مشاعري نحو البعيد .. البعيد ، بل فتحت الآفاق أمام فكري على زمن كنتُ أحوجُ ما أكونُ فيه لتذوُّقِ معنى الطفولة مع صغاري؟ ، ولكي أحس بطفولة أبنائي وسذاجتهم !.
لا أظن بأنك يا معاوية تدرك الآن مشاعري نحوك ، وأنت تتذوق مرارةَ الاغتراب ، عبثا يميلُ المرءُ إلى نسيان مرابع الصبى ومكان حبوه ولعبه وعبثه وبراءة طفولته .
إنَّ غربتي عن الوطن حرمتني لذة كثيرٍ من الاستمتاع ، وأكثرها قسوة هي رغبتي الشديدة بالعيش معهم صغارا ، لكني بذلك ضيعتُ نصف شبابي في الاغتراب ، وكل هذا ، فمن أجل أن أوفر لهم حياةً كريمةً وهانئةً ولأساعدهم على مواجهة قسوة الحياة وظروف المعيشةِ الصَّعبة ، أنا من جهتي .. أنصفتهم ، لكني دفعت نصف شبابي ثمنا لذلك ، ومن أجلهم فلن أندم على دموعٍ انهمرتْ ، وأحزانٍ استعمرت فؤادي ،  لكن كان أكثر ندمي على فراقي لهم وهم براعم كبراعم الأزهار .
كان أبنائي وهم صغارا أكثر تشوقا لرؤيتي ،  منهم وهم كبار ، ورغم ذلك فلن ألومُهم ، لأنهم لم يدركوا بعد ، حقيقة ما كنتُ أحس به من ألم وشقاءٍ وحزن ، لكني أعلم بأنّ من يحيط بهم الآن ، هم شرار الناس وأكثرهم خسة ونذالة ، فبدل أن يوجهوهم إلى ما يرضي الله ، فقد شحنوهم بالكراهية والحقد حتى أعموا أبصارهم  عن الحقيقة ، فعُموا بذلك وصُموا، وأجبروا تبعا للظروف بأن يبتعدوا عني كل هذا البعد وأن يتناسوا كل ما هو جميل فعلته من أجلهم وهم صغار ، دون أن يتبينوا الحقيقة ، ودون ما يعرفوا ما بي من حزن وشوقٍ لرؤيتهم ، مع أني أتظاهر بالصبر وتحمل الأسى ،  كي لا أثقل عليهم بأي شيء ، ولكي لا أفرض نفسي عليهم وأقتحم عليهم هدوءهم ، لكني أدرك بأنهم سيفيقون من غفوتهم عاجلا أم آجلا وربما بعد فوات الأوان ، والأيام هي وحدها ستكون الحكمُ ما بيني وبينهم وسيدركون هذا في وقت متأخر لا يمكنهم تفادي الأسى والقسوة التي يحملونها لي .
هذه أول مرة ، أبوح بأسراري الخاصة للملأ ، ولم أجد بدا من هذا ، وربما كان هذا درسا للقساة والعاقين جميعهم ، لعلهم يثوبوا إلى رشدهم ، ويعودوا إلى ما أمر به الله أن يوصل سواء الوالدين أو الأرحام .
لن أحاول التأكيدَ للقراء بأنَّ الآلاف من الدَّمعات الصادقة انهمرتْ من هذه المآقي ، فانسابتْ على وجنتاي بحرقةٍ بالغة ، كانت شاقة على النفس ، وترفدني بهمومٌ لا تطاق ، وكم تكررت ،  في كل رحلة اغتراب تُبعدني عنهم وهم صغارا، لكنَّ الضرورةَ كانت تجبرني على تحملِ المشقَّةَ والضنك في كلِّ ما واجهني مع الأيام من حسرات وآلامٍ وأشواق وندم ، وهكذا أرادتْ لي الظروف والأقدار بأن أواجه ما واجهتُ في معترك حياتي، فحرِمتُ بذلك من لذة العيش معهم ، ولم تجدْ عليَّ الظروفُ بأية فرصة تمنيتها لمداعبة أطفالي واللعب واللهو معهم كأبٍ لا يثنيهِ عن حقه المكتسب قوةٌ في الكون كله ولا حتى الظروف نفسها.
ما أصعبَ الاغتراب ، وما آلمَ البعد عن الأحبة ، وخاصة حينما يكون هذا الاغتراب في عالمنا العربي بالذات ، فالمغتربُ الأشقى لا يتذوق مرارة العيش الحقيقية إلا في الأوطان العربية بها أكثر من غيرها ، لأنَّ بعض شعوبها قساةٌ والله وبلا رحمة ولا شفقة ، بل فلا يدركون معنى لشدة الاغتراب ومقدار وقعه على النفس البشرية ، ولا يعون معنى الابتعاد عن الأهل والأحبة والأوطان تبعا لحاجاتهم .. فهل عدالة السماء هي من أعطت قطرا وحرمت قطرا من نعم الحياة ؟ .
المتنزهون في وطني من أبناء العرب الذين ينعمون بالثراء الرباني ، يأتون إلى بلادنا بسياراتهم الفخمة ، وقد رأينا الكثير منهم متبجحا ، متعاليا على أبناء الوطن . لأنهم يملكون من الأموال ما يجعلهم أحسن حالا من أبناء الوطن بكثير ، مع أن الكثير منهم بخلاء إلى حد الشحّ ، وأقسم بالله لقد رأيت بعضهم يجادل على مبلغ أقل من مائتي فلس أي ما يساوي ثمن رغيف من الخبز ، ومع ذلك فإنَّ بعضهم يُنفقون على الملذات والرفاهية الدنيئة أموالا طائلة.
بالأمس وأنا في طريق عودتي من إحدى المدن القريبة لسكني ، رأيتُ صدفةً اثنين من الأخوة العمال المصريين (ولا أتحرجُ في بيان جنسيتيهما) فالمصريون في بلدنا رجالٌ يَحترمهم الجميع ، لقد أسهموا في تعمير بلادنا وازدهارها بلا شك ، لأنهم مخلصون وأوفياء ، رأيتهما جالسين على قارعة الطريق في شارع عام ، كانا يرتديان ملابس العمل ، ورأيت الغبار يغمرهما من قمة رأسيهما وحتى أخمس قدميهما ، كانا يتحاوران ويُقهقهان ، وكأنهما أسعدا إنسانين في الوجود ، وكأنهما ليسا باغتراب ، لم أتبين وأنا أسير إن كانت هناك دموع تنهمر عنوة على وجناتهم !، لكني والله سرعان ما عدتُ إلى الوراء لاستجمع ذاكرتي ، فأعود إلى الماضي الأليم ، إلى حيثُ المعاناةُ وهمومِ الاغتراب ، لك الله أيها القاريء ، لقد حزنتُ كثيرا من أجل هؤلاء الشباب ، لكني أمام الذين يرافقونني ، حبستُ دمعة شارفت على الانحدار كات أن تذكي في قلبي شعلة من نار ، وجذوةً جمر ، فذكرتني بمرارة العيش مرةً أخرى وأذكتْ بصدري نيرانَ الاغتراب .
لكن والله ما كانت الغربة بالنسبة لي كإنسان له طاقة من التحمل لا يعلمها إلا الله ، إلا درسا عظيما لي جعلتني إنسانا بحق ، يشعر مع الغرباء اليوم ويحسُّ بآلامهم ، وهم يعانون بؤس ما عانيت تماما ، بل ولأشعر وأحسَّ بحسراتهم تتوقدُ في جوانحي .
ألا لعنَ اللهُ الاغترابَ والبعدَ عن الأحبةَ والأوطانِ ، مهما كانت أسبابها ومسبباتها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن خطاب…مشاركتي بتطريز كلمة.. (أشواق)

مشاركتي بتطريز كلمة..   (أشواق) أشتاق للفجر كي أشتمَّ نسمتها  وأرقب الصبح كي أحظى بلقياها  شوقي ديارٌ وما زالت تراسلني  عبر النسيم ونبض القل...