نصّ جديد للكاتب أحمد بو قرّاعة
نقابةُ - هنَّ
يبدو أنّها حَرَكَةُ احتجاجٍ كُبرى. سيّارات فَاخِرة يَصدح منها النشيد الوطني بصوتٍ نِسَائِي فيه حَمَاسَةٌ وإغراء. وللركح تلاعب بِعلم وطنِي قماشته من حرير فساتين أعراس الأغنياء. وللنّجمة تراقص كأنّها تُريد الهلال يصير بَدْرًا فتكون قَلْبَه. وفي أعلام صغيرة زُيّنَتْ بها نوافذ السيّارات كانَ الأَمرُ كذلكَ. وَبَدت فِي عيون الناس حَيرةٌ. سيّارات جميلة مُصطفّة إلى الطريق مِقْوَدِ كُلِّ مِنها لباسٌ مُوَحّد مسروق من ألوان الأمن والجيش مُزَيّف القماشة. فستان إلى صدر كاد ضِرْعاَ شاة قد جَفَّا أن يتهدَّلا ارتخاء، وتفّاحتان أخرتان إلى مِقود صغير لم تنضجا بعد. وإلى مِقود سيّارة مُزَيَّنَةٍ لوْ بِالعين عَمش وبِالجّو غبش لَظنَّتْ أنه جندي مزيّف أو حقير قد نَقَّى و جْهه أو لِصٌّ فِي ثَوْبِ شرطي مَغْشوش قد جَلس على دُكّانَةِ حَمَّامَيْ .كبريتٍ وبُخَار
وينظر الناس فِي عَجَبٍ إلَى عَجَبٍ. ويَسْمَعُون مِن جديد إلى جديد. لقد تعوّد هؤلاء الناس على أن يَرَوْا فِي هذه السنوات الأخيرة عجبا وأنْ يسمعوا جديدًا. فما سمعت أذْنٌ ذلك النشيد إلاّ تَسَمَّرت قَدَمَاهَا فِي الأرض، وما رَأت عينٌ ذلك المشهد الا وقد استعصى عليها السير والمشي. عَجبٌ عجيب. نشيد وطنيّ لم يسمع .الناسُ مثله منذ الاستقلاَل
ومن خَلف السّور بدأت أصوات نسائية في بعضها رنين وفي بعضها كحّة و بحَّة تجذب أسماع المارّة وسَائقي الحافلات وسيّارات النقل الجماعي. وسكن الكون إلاّ من أصواتهن التي صَارَت تعلو وتتوضّح. وظَلَّ الناسُ آذَانًا لاَقِطَةً وعيوناً رَاصدة منتظرة وأَلْسِنَةً تتساءل وَ تستغرب. وظّل كل ذلك يزداد ويَكْبُر. جَمْع غَفير من النّجوم المتلألِئة تسير فِي انتظام تظهر من بوّابة المدينة العتيقة - الباب الغربي - لِتجمّلَ مواقف الحافلات والسيّارات وتحوّل صَخَبها إلى حَفْلٍ يستعرض أعْرَاسًا. وتقدّمت من تلكَ الثريّات امرأةٌ حَارَ فيها الزمن فلم يُعدّدْ سوى سنوات عمرها الطويل. واستعصى عليه يُكمّشُ جِلْدًا أو يُجَعّدُ خَدًا أويُذبّل عَيْنًا أو يحني قامَةً. في عينها تحديق وتدقيق وفي لسانها تجربة ومعرفة، وفي مِشيتها استصغار واحتقار
كانت تسيرمرفوعة الرأس لاَتعْبَأُ بِأحَدٍ. واجتَازت البّوابة تسير خَلْفَهَا نساءٌ كثيرات فيهنّ جمال وفي بعضهنّ أثرالزمن ونوازله، وأخريات مَازالت آثار نِعالهن حديثة فِي هذه السّبيل التي مَشت فيها أصناف .كثيرة مِن القدودِ والخدود لأسباب مُختلفة
واحتمت البوّابة بشخصها فكانت سيفا موضوعا على الرّقاب. لاَ أحدَ مِن الباعة رَفَع رأسا أو حرّك شَفَةً. وبصوتٍ امتزجت فيه الرهّبة بالاحترام هَزَّ أحدُهم رأسَه ليقولَ :" الحاجّة حبيبة ، أهلاً وسهلاً." فنظرت . « ..إليه نظرة فيها أمل ووَعد. وكاد الرّجُل أن يفهم مَا حدّثت به عينها فقال :" إن شاءَ الله. أغلبنا سَنَدٌ
تقدّمت هذه الجموع نحو السيّارات المصطفّة فِي الطّريق. مَشَتْ فتيلاً زَاهِي النّور. وآخرَ كاد يذوي و شموعاً تتأهّب لإيقاد نورها فِي ظُلمة هَذَا الدّرب المعبّد بالزّجاج والملفوف برايات الاحزاب المختلفة والناطقة بألسنة مِن الفخّار المحروق. مَشت هذه الجموع تلاحقها على اليمين عين مِئذنة الجامع الكبير وتراقبها، ورفَع تمثال "بورقيبة" أمامها يَدَهُ يحيّيها وينتظرها منتصِبًا فِي قلب المدينة.ورُفِعت الاصوات :تردّد ما تصدح به الأبواق
حُماة الحِمَى ياحماة الحِلتقول
هلموا هلموا لمجد الزمن
لتحريرخضرائنا لانبالي بأقسى المِحن
وازدانت الطّريق الرئيسية بتلك الثرّيات واستنارت بتلك الشموع تتقدّم "الحاجّة" ذلك الموكب الجميل وسَارخلقٌ كثيرٌ وراءها. وأشارت "الحاجّة حبيبة" برجلها إلى موانع حديديّة أغلِقَتْ بها طريق فيها "منطقة أمْنٍ وشرطة" فأزاحَ شرطيّ بسرعة تلك الموانع. وتقدّم الموكب ليستقِرَّ أمام مَقَرِّ "الاتحاد العام التونسي لشغل" وكان مُغْلَقًا. وازدحَم المكان بالناس فاَسِحِينَ للحاجّة السيطرةَ على مدخل بَابِه الكبير. .وانتظم ذلك الموكب بسرعَة حَدَقَةُ عَيْنه الحاجّة وحَوَاجِبُه النّساء حَاجِبًا خلف آخر فَبَدَا المنظر كأنّه مَدَارج مسرح عليها أقمار وأهِلّة وثريّاتٌ وشموع لا تتجّمع إلاّ في مَحَافل الاثرياء أوفي ديار من سَلَكَ طريق تضافرهم ولبس لبوس رِقّتهم وصَبَغَ وجهه بمساحيق تأفّفهم وتعفُّفهم وتأدّبهم. وأشارت الحاجّة بيدها إلى شعبها ففرح ما فوق الرّؤوس :وما تحت الأقدام وبقية الجهات بأصوات أوتارها صَافية تردّد
رُعاَةَ البِلاَدِ حُماَة الوطن هلّموا هلّموا لدحر الفتن
لقد يَبست فِي عروقنا الدّما وصرنا عبيدًا بِأرض المِحَن
رعاة البلاد حُمَاة الحِمى هلّموا هلّموا لطرْدِ العَمىَ
لقد صرخت فِي عروقنا الدما لِجَيْش عُرْاتا بِأمرالسّما
سَبَانا لتحرير قدس يُضام ويُرْسي الخِلافة في ذا المقام
رعاة البلاد حماة الوطن هلموا هلموا لِبَيْتِ النِّعَمْ
ففي بيتنا كُلّ عَالِي الهِمَمْ نُبَاهِي به ويُبَاهِي بنا
وفيه ضمان لنيل المُنى وفيه لأعداء "مومس" نَقَم
وفيه لمن سَالمونا الأمان
ألاَ خَلِّدِي ياحِياضَ النّعيم كُؤوس المِنَنْ لتحريرأرحامنا لانبالِي بأقسى المِحن
جِهَادًا يُحَلَّى بِنَصْرٍمُبين على الظالمين،عَلَى الغاصِبين طغاة الزمن
وجَفَلَ بعض الناس واحتَفل آخرون واستحالت آذان البعض إلى أقماع تصفّر فِيها رياح الكلمات دون أن .تَعِيها. وكاد صاحب لِحية كثيفَة أنْ يرفَع يَدًا فصدّه شرطِيٌّ ومَنَعه شابٌّ فتيّ
وصاح من بعيد رجل آخر يردّد :"هلموا هلِموا لمجد الزمن ." وخانه الحفظ فتعثّر فساندته جارته بصوتٍ فيه بَحّة وكّحة وصاحا يَسُبّان ويخوّنان ويشتمان "الحاجّة" وشعبها بعبارات يأبَاها السّفهاء والحمقى والأراذل. وغمزت "الحاجّةُ" بعينها فكاد المكان ينزعِجُ لذلك السّكون والسّكوت والهفوت لولا أن صوتها :قد هَدَّأ روعَه وانزعاجَه تقول بصوت عذب مُرَخّم :
- أيّها الناسُ مَنْ فيكم قد تجاوزالشباب ولايعرفنا؟! أرى وجوها كثيرةً نعرفها وتعرفنا. نحن أعرف بمن رِيحُ جسمه زَفرة قَذرة وبِما طيّبْنَاهَا،وبمن طبعه هائج وبِمَا رَقّقْنَاه،وبمن لايلين بالعصا وبِما رَوَّضْنَاهُ. كانت لنا بيوت فِي تلك المدينة العتيقة فآسألوا أقدامكم كم مَشت إليها.كانت لنا فيها منازل بَنيْنَاها وفيها أغلَقْنَا عَلَى الشر والفساد أبوابَه فَجاَءنَا عضاريط جند الخلافة السادسة وصناديد جيش الإسلام ومختارون من أنصار الشريعة وأنصار السنّة وأعاتي فيلق القدس واجتمعت علينا كتيبَة عقبة مع كتائب حزب الله فِي غزوة تطهير المدينة مِنَّا وتنظيفها مِن فَسَادِنا فاستباحونا ليالي كثيرة واستباحوا متاعنا غنائم حرب وافتكوا بيوتنا .كي تعمّرها أجسادهم الطّاهرة وأرواحهم التقيّة وقالوا تستحيل مسجدًا ولكنّها اليومَ بيوتهم وإقاماتُ كِراء وكاد الغبن يدفعنا إلى الفساد وإفساد صَارَا ظاهرين وشائعين فِي أرض كانت بيوتنا أنظفَ مِنها.
وَضجّت الأصوات وكان الحاضرون فِرقًا وشِيعًا. وكثر الصخب بين مستنكر لفعل الجُند ورَافض لِغَزوته، وبين صائح باسترداد الحق وتحقيق العدل،وبين أصوات تعلو ب" الله أكبر،الله أكبر.".وأمْسَكَتِ"الحاجّة" :بمكبر صوت لتقول
- مَا لهذا اجتماعنا ، وإنما حين يصلح الدهر ويستقيم الزمن يُطلَب الحقّ ويُرجَى العدل.وأيّ فَمٍ لم يلهج فِي هذه الأعوام بالحريّة والديمقراطيّة والمساواة وإقام الحقّ والعدل والإنصاف بين النّاس؟ أفيكم مُنكِرٌ لِمَا قلتْ؟ وأيّ ناسٍ نحن ؟ ألَسْنَا مَنْ طهر الشوارع مِن الفساد ولَيّن الطّبائع وحافظ على الأرزاق من التّلف وحفظ الأبدان من المرض.فمن كان يدخل بيوتنا كان آمِنًا لا تلاحقه عين شرطة فعين الشرطة علينا ونحن عيون لهم. وما زار من دخل بيوتنا طبيبًا،فبعضُ الطبّ مِن عِلمنا ملاحظةً وتجرَبةً، فاستراحت بذلك وزارة الدّاخلية وادّخرت وزارة الصحّة.وَكَمْ مِن غَنّي أفقَر لصَاحِبة واحدة؟ وكم من صَحيح سَلَّهُ المرضُ لِلَيْلَةٍ بِنكرة،وما احتاجَ غنّيٌ معنا إلاّ لقليل وما احتاجَ مُقِّلٌ لكثير،وما زُارنَا مريضٌ إلا عرفناه فرددناه فإنّ بِنَا عيْنًا بكلِّ مريض عليمة،وربّما أحْصَيْنَا له من عندنا الدّواء.وكّل هذا قليل تعرفونه،فهل تنكِرونه؟ فطأطأ النّاس رؤوسهم ولم يَرْفع أحدٌ مِنهم صوتًا.ولمّا رأت منهم ذلك أضافت :
- وإذا شئتم زِدنا.فكم من رَفيقةٍ لنا صارت خليلةً لوزير وصاحبة أضْحت لمدير وملازمة اتخذها مُحافظُ بنك معلوم و واسِطة صارت فِي وزارة التشغيل تتجنّبُ رشوةً وتعمر بها جيوب الرؤساء والمديرين.فهل سَمِعتم بصَاحبة مِنّا سطت على مَالِ النّاس فاشترت به قصورًا؟ وكم جُبّة من صوف أو حرير جاءتنا تزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فدعتنا إلى نفسها بحَلال غير معروف ولا مشهور.وكم قدمًا مَشت إلى المعروف جهارا وسارت إلى ضدّه استِنَارًا فرفضنا النفاق وأَبيْنَا سوء الأخلاق،فأبوابنا مفتوحة غير مطروقة ليلَ نهارًا.أهذه أفعال تنكرونها؟ فلِمَ أبواب الحق تقفلونها؟ تسْعَوْن إلينا سِرًّا وتفرحون بنا وتجدون عندنا ما تضنّ به نساؤكم عليكم فتأتون بيوتنا كالمساكين فِي وجوهكم مَتْربة فنزرع فيها النضارة والسّرور.وما بالُ ألسنتكم تشكو إلينا همومَكم وتفضح لناعمومُ سرائركم وتَعيبُنا إذا غادرتمونا وتسبّوننا بالقاف والحاء والباء.أتمشون بأكثر من لِسَان؟ وما بال أرجلكم تثقل أمام عتبات بيوتكم وتخفّ لنا وعندنا ؟ .وإذا شئتم زدنا.
فقال النّاس:"زِيدِينَا عِشقًا زيدينا.." فأطرقت قليلا ثم رفعت رأسها دون خوف أو تردّد فقالت وقد أشارت :إلى بَاب مقر اتحاد الشغل
- هل تظنّون أنّ كُلّ مَن دَخَلَه نظيف اليد واللّسان.فاسمعوا وَعُوا وآحفظوا:كم قاضيا ضَحكت لنا يده بِما ضحكت به جيوبُه من أموال المظلومين والبُسطاء والمغلوبين كأنّه يأتينا ويصاحبنا ليَستَحِمّ غاسِلا ومُكَفِّرًا.وكم من مُحاَمٍ جاءنا ليطهّر لسانا من كذب أولنقرّبه من ذي سلطان أو ذي مَالٍ أومن ذي بلاهة مُحِبّ للخصام عنيدٍ.وكم طبيبًا أرضانا بدواء كثير مسروق.وكم من مدير أدار مؤسسةً بصلاحِ رأينا فاستغنى وإن أفقرت.وكم من مُعلّم عَلّم تلاميذَه بما تعّلم عندنا فأفرخَ عِلمُه عن أدب وعلِم.وكم شرطيا اشترطت عليه صاحباتُنا كَفّا عفيفة ومالاً نظيفًا وعقلا شريفا.وكم مِن خطيب في تلك القاعة بلسانٍ من غسيل فرشنا وفِراشنا وكم ...وكَمْ....فهل كذبتُ فيما قلتُ؟ وإن شئتم زدتكم وصعدتُ بكم إلى الأعلى…
فطأطأ خلق كثير رؤوسهم ورفعت نساء رؤوسهن وصاح شباب:"زيدينا عشقا زيدينا.." فقالت
- الصّفحُ والعَفْوُ مِن أخلاقنا والصّدق فِي ذواتنا وأغلب أسراركم مكتومة في صدورنا وكلّكم رَاجِعٌ إلينا وأغلبكم مِنَّا فَلِمَ لكلّ تلاميذنا هؤلاء نِقابات ونحن ألمْعْمَاتْ" المعلّمات يَأَبَى علينا بعضُ القوم ذلك؟ أنحن قِلّة؟ أنحن قليل؟ أنحن عاطِلات؟ أنحن جاهلات؟ ألَسنا أوّلُ من يدفع الضّرائب ويحترم الواجبات؟ لا نريد سَنَدًا يَسْرِي إلينا.أَلَمْ تقولوا قد صَلُحَ الدهر الآن فدَعُوا النّفاق واتركوا الشقاق!نريد الاعتراف بنا طبقة شغيلة عاملة.نريد الاعتراف بنا- نريد الانخراط وسندفع عن غيرنا مِن الهيئات معاليم الاشتراكات إن ضاقت السبّل عن الاتحادات.أهَذا كرَمٌ علينا أم تكرّمٌ وتشرّف بنا...الصمود... الصمود...
وأعاد النساء نشيدهن الخاصّ بأعلى أصواتهن.وقبل أن يقتحم بعضُ الناس مَقّرَا اتحاد الشغل فَتَحَ رَجُلٌ ظريف أنيق ذو وجه مكور ورأس مستطيل وفم عريض بَابَ المقّرِوآبتسم للحاجّة"حبيبة" ابتسامة عَراقة .معرفةٍ وقديم تواصلٍ وتَوَادُدِ
وصاح ناسٌ كثيرون داخل القاعة وخارجها:"نُريد أن يكون الأمين العام "للاتحاد"من هذه . النِطاف النِّظاف
نقابةُ - هنَّ
يبدو أنّها حَرَكَةُ احتجاجٍ كُبرى. سيّارات فَاخِرة يَصدح منها النشيد الوطني بصوتٍ نِسَائِي فيه حَمَاسَةٌ وإغراء. وللركح تلاعب بِعلم وطنِي قماشته من حرير فساتين أعراس الأغنياء. وللنّجمة تراقص كأنّها تُريد الهلال يصير بَدْرًا فتكون قَلْبَه. وفي أعلام صغيرة زُيّنَتْ بها نوافذ السيّارات كانَ الأَمرُ كذلكَ. وَبَدت فِي عيون الناس حَيرةٌ. سيّارات جميلة مُصطفّة إلى الطريق مِقْوَدِ كُلِّ مِنها لباسٌ مُوَحّد مسروق من ألوان الأمن والجيش مُزَيّف القماشة. فستان إلى صدر كاد ضِرْعاَ شاة قد جَفَّا أن يتهدَّلا ارتخاء، وتفّاحتان أخرتان إلى مِقود صغير لم تنضجا بعد. وإلى مِقود سيّارة مُزَيَّنَةٍ لوْ بِالعين عَمش وبِالجّو غبش لَظنَّتْ أنه جندي مزيّف أو حقير قد نَقَّى و جْهه أو لِصٌّ فِي ثَوْبِ شرطي مَغْشوش قد جَلس على دُكّانَةِ حَمَّامَيْ .كبريتٍ وبُخَار
وينظر الناس فِي عَجَبٍ إلَى عَجَبٍ. ويَسْمَعُون مِن جديد إلى جديد. لقد تعوّد هؤلاء الناس على أن يَرَوْا فِي هذه السنوات الأخيرة عجبا وأنْ يسمعوا جديدًا. فما سمعت أذْنٌ ذلك النشيد إلاّ تَسَمَّرت قَدَمَاهَا فِي الأرض، وما رَأت عينٌ ذلك المشهد الا وقد استعصى عليها السير والمشي. عَجبٌ عجيب. نشيد وطنيّ لم يسمع .الناسُ مثله منذ الاستقلاَل
ومن خَلف السّور بدأت أصوات نسائية في بعضها رنين وفي بعضها كحّة و بحَّة تجذب أسماع المارّة وسَائقي الحافلات وسيّارات النقل الجماعي. وسكن الكون إلاّ من أصواتهن التي صَارَت تعلو وتتوضّح. وظَلَّ الناسُ آذَانًا لاَقِطَةً وعيوناً رَاصدة منتظرة وأَلْسِنَةً تتساءل وَ تستغرب. وظّل كل ذلك يزداد ويَكْبُر. جَمْع غَفير من النّجوم المتلألِئة تسير فِي انتظام تظهر من بوّابة المدينة العتيقة - الباب الغربي - لِتجمّلَ مواقف الحافلات والسيّارات وتحوّل صَخَبها إلى حَفْلٍ يستعرض أعْرَاسًا. وتقدّمت من تلكَ الثريّات امرأةٌ حَارَ فيها الزمن فلم يُعدّدْ سوى سنوات عمرها الطويل. واستعصى عليه يُكمّشُ جِلْدًا أو يُجَعّدُ خَدًا أويُذبّل عَيْنًا أو يحني قامَةً. في عينها تحديق وتدقيق وفي لسانها تجربة ومعرفة، وفي مِشيتها استصغار واحتقار
كانت تسيرمرفوعة الرأس لاَتعْبَأُ بِأحَدٍ. واجتَازت البّوابة تسير خَلْفَهَا نساءٌ كثيرات فيهنّ جمال وفي بعضهنّ أثرالزمن ونوازله، وأخريات مَازالت آثار نِعالهن حديثة فِي هذه السّبيل التي مَشت فيها أصناف .كثيرة مِن القدودِ والخدود لأسباب مُختلفة
واحتمت البوّابة بشخصها فكانت سيفا موضوعا على الرّقاب. لاَ أحدَ مِن الباعة رَفَع رأسا أو حرّك شَفَةً. وبصوتٍ امتزجت فيه الرهّبة بالاحترام هَزَّ أحدُهم رأسَه ليقولَ :" الحاجّة حبيبة ، أهلاً وسهلاً." فنظرت . « ..إليه نظرة فيها أمل ووَعد. وكاد الرّجُل أن يفهم مَا حدّثت به عينها فقال :" إن شاءَ الله. أغلبنا سَنَدٌ
تقدّمت هذه الجموع نحو السيّارات المصطفّة فِي الطّريق. مَشَتْ فتيلاً زَاهِي النّور. وآخرَ كاد يذوي و شموعاً تتأهّب لإيقاد نورها فِي ظُلمة هَذَا الدّرب المعبّد بالزّجاج والملفوف برايات الاحزاب المختلفة والناطقة بألسنة مِن الفخّار المحروق. مَشت هذه الجموع تلاحقها على اليمين عين مِئذنة الجامع الكبير وتراقبها، ورفَع تمثال "بورقيبة" أمامها يَدَهُ يحيّيها وينتظرها منتصِبًا فِي قلب المدينة.ورُفِعت الاصوات :تردّد ما تصدح به الأبواق
حُماة الحِمَى ياحماة الحِلتقول
هلموا هلموا لمجد الزمن
لتحريرخضرائنا لانبالي بأقسى المِحن
وازدانت الطّريق الرئيسية بتلك الثرّيات واستنارت بتلك الشموع تتقدّم "الحاجّة" ذلك الموكب الجميل وسَارخلقٌ كثيرٌ وراءها. وأشارت "الحاجّة حبيبة" برجلها إلى موانع حديديّة أغلِقَتْ بها طريق فيها "منطقة أمْنٍ وشرطة" فأزاحَ شرطيّ بسرعة تلك الموانع. وتقدّم الموكب ليستقِرَّ أمام مَقَرِّ "الاتحاد العام التونسي لشغل" وكان مُغْلَقًا. وازدحَم المكان بالناس فاَسِحِينَ للحاجّة السيطرةَ على مدخل بَابِه الكبير. .وانتظم ذلك الموكب بسرعَة حَدَقَةُ عَيْنه الحاجّة وحَوَاجِبُه النّساء حَاجِبًا خلف آخر فَبَدَا المنظر كأنّه مَدَارج مسرح عليها أقمار وأهِلّة وثريّاتٌ وشموع لا تتجّمع إلاّ في مَحَافل الاثرياء أوفي ديار من سَلَكَ طريق تضافرهم ولبس لبوس رِقّتهم وصَبَغَ وجهه بمساحيق تأفّفهم وتعفُّفهم وتأدّبهم. وأشارت الحاجّة بيدها إلى شعبها ففرح ما فوق الرّؤوس :وما تحت الأقدام وبقية الجهات بأصوات أوتارها صَافية تردّد
رُعاَةَ البِلاَدِ حُماَة الوطن هلّموا هلّموا لدحر الفتن
لقد يَبست فِي عروقنا الدّما وصرنا عبيدًا بِأرض المِحَن
رعاة البلاد حُمَاة الحِمى هلّموا هلّموا لطرْدِ العَمىَ
لقد صرخت فِي عروقنا الدما لِجَيْش عُرْاتا بِأمرالسّما
سَبَانا لتحرير قدس يُضام ويُرْسي الخِلافة في ذا المقام
رعاة البلاد حماة الوطن هلموا هلموا لِبَيْتِ النِّعَمْ
ففي بيتنا كُلّ عَالِي الهِمَمْ نُبَاهِي به ويُبَاهِي بنا
وفيه ضمان لنيل المُنى وفيه لأعداء "مومس" نَقَم
وفيه لمن سَالمونا الأمان
ألاَ خَلِّدِي ياحِياضَ النّعيم كُؤوس المِنَنْ لتحريرأرحامنا لانبالِي بأقسى المِحن
جِهَادًا يُحَلَّى بِنَصْرٍمُبين على الظالمين،عَلَى الغاصِبين طغاة الزمن
وجَفَلَ بعض الناس واحتَفل آخرون واستحالت آذان البعض إلى أقماع تصفّر فِيها رياح الكلمات دون أن .تَعِيها. وكاد صاحب لِحية كثيفَة أنْ يرفَع يَدًا فصدّه شرطِيٌّ ومَنَعه شابٌّ فتيّ
وصاح من بعيد رجل آخر يردّد :"هلموا هلِموا لمجد الزمن ." وخانه الحفظ فتعثّر فساندته جارته بصوتٍ فيه بَحّة وكّحة وصاحا يَسُبّان ويخوّنان ويشتمان "الحاجّة" وشعبها بعبارات يأبَاها السّفهاء والحمقى والأراذل. وغمزت "الحاجّةُ" بعينها فكاد المكان ينزعِجُ لذلك السّكون والسّكوت والهفوت لولا أن صوتها :قد هَدَّأ روعَه وانزعاجَه تقول بصوت عذب مُرَخّم :
- أيّها الناسُ مَنْ فيكم قد تجاوزالشباب ولايعرفنا؟! أرى وجوها كثيرةً نعرفها وتعرفنا. نحن أعرف بمن رِيحُ جسمه زَفرة قَذرة وبِما طيّبْنَاهَا،وبمن طبعه هائج وبِمَا رَقّقْنَاه،وبمن لايلين بالعصا وبِما رَوَّضْنَاهُ. كانت لنا بيوت فِي تلك المدينة العتيقة فآسألوا أقدامكم كم مَشت إليها.كانت لنا فيها منازل بَنيْنَاها وفيها أغلَقْنَا عَلَى الشر والفساد أبوابَه فَجاَءنَا عضاريط جند الخلافة السادسة وصناديد جيش الإسلام ومختارون من أنصار الشريعة وأنصار السنّة وأعاتي فيلق القدس واجتمعت علينا كتيبَة عقبة مع كتائب حزب الله فِي غزوة تطهير المدينة مِنَّا وتنظيفها مِن فَسَادِنا فاستباحونا ليالي كثيرة واستباحوا متاعنا غنائم حرب وافتكوا بيوتنا .كي تعمّرها أجسادهم الطّاهرة وأرواحهم التقيّة وقالوا تستحيل مسجدًا ولكنّها اليومَ بيوتهم وإقاماتُ كِراء وكاد الغبن يدفعنا إلى الفساد وإفساد صَارَا ظاهرين وشائعين فِي أرض كانت بيوتنا أنظفَ مِنها.
وَضجّت الأصوات وكان الحاضرون فِرقًا وشِيعًا. وكثر الصخب بين مستنكر لفعل الجُند ورَافض لِغَزوته، وبين صائح باسترداد الحق وتحقيق العدل،وبين أصوات تعلو ب" الله أكبر،الله أكبر.".وأمْسَكَتِ"الحاجّة" :بمكبر صوت لتقول
- مَا لهذا اجتماعنا ، وإنما حين يصلح الدهر ويستقيم الزمن يُطلَب الحقّ ويُرجَى العدل.وأيّ فَمٍ لم يلهج فِي هذه الأعوام بالحريّة والديمقراطيّة والمساواة وإقام الحقّ والعدل والإنصاف بين النّاس؟ أفيكم مُنكِرٌ لِمَا قلتْ؟ وأيّ ناسٍ نحن ؟ ألَسْنَا مَنْ طهر الشوارع مِن الفساد ولَيّن الطّبائع وحافظ على الأرزاق من التّلف وحفظ الأبدان من المرض.فمن كان يدخل بيوتنا كان آمِنًا لا تلاحقه عين شرطة فعين الشرطة علينا ونحن عيون لهم. وما زار من دخل بيوتنا طبيبًا،فبعضُ الطبّ مِن عِلمنا ملاحظةً وتجرَبةً، فاستراحت بذلك وزارة الدّاخلية وادّخرت وزارة الصحّة.وَكَمْ مِن غَنّي أفقَر لصَاحِبة واحدة؟ وكم من صَحيح سَلَّهُ المرضُ لِلَيْلَةٍ بِنكرة،وما احتاجَ غنّيٌ معنا إلاّ لقليل وما احتاجَ مُقِّلٌ لكثير،وما زُارنَا مريضٌ إلا عرفناه فرددناه فإنّ بِنَا عيْنًا بكلِّ مريض عليمة،وربّما أحْصَيْنَا له من عندنا الدّواء.وكّل هذا قليل تعرفونه،فهل تنكِرونه؟ فطأطأ النّاس رؤوسهم ولم يَرْفع أحدٌ مِنهم صوتًا.ولمّا رأت منهم ذلك أضافت :
- وإذا شئتم زِدنا.فكم من رَفيقةٍ لنا صارت خليلةً لوزير وصاحبة أضْحت لمدير وملازمة اتخذها مُحافظُ بنك معلوم و واسِطة صارت فِي وزارة التشغيل تتجنّبُ رشوةً وتعمر بها جيوب الرؤساء والمديرين.فهل سَمِعتم بصَاحبة مِنّا سطت على مَالِ النّاس فاشترت به قصورًا؟ وكم جُبّة من صوف أو حرير جاءتنا تزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فدعتنا إلى نفسها بحَلال غير معروف ولا مشهور.وكم قدمًا مَشت إلى المعروف جهارا وسارت إلى ضدّه استِنَارًا فرفضنا النفاق وأَبيْنَا سوء الأخلاق،فأبوابنا مفتوحة غير مطروقة ليلَ نهارًا.أهذه أفعال تنكرونها؟ فلِمَ أبواب الحق تقفلونها؟ تسْعَوْن إلينا سِرًّا وتفرحون بنا وتجدون عندنا ما تضنّ به نساؤكم عليكم فتأتون بيوتنا كالمساكين فِي وجوهكم مَتْربة فنزرع فيها النضارة والسّرور.وما بالُ ألسنتكم تشكو إلينا همومَكم وتفضح لناعمومُ سرائركم وتَعيبُنا إذا غادرتمونا وتسبّوننا بالقاف والحاء والباء.أتمشون بأكثر من لِسَان؟ وما بال أرجلكم تثقل أمام عتبات بيوتكم وتخفّ لنا وعندنا ؟ .وإذا شئتم زدنا.
فقال النّاس:"زِيدِينَا عِشقًا زيدينا.." فأطرقت قليلا ثم رفعت رأسها دون خوف أو تردّد فقالت وقد أشارت :إلى بَاب مقر اتحاد الشغل
- هل تظنّون أنّ كُلّ مَن دَخَلَه نظيف اليد واللّسان.فاسمعوا وَعُوا وآحفظوا:كم قاضيا ضَحكت لنا يده بِما ضحكت به جيوبُه من أموال المظلومين والبُسطاء والمغلوبين كأنّه يأتينا ويصاحبنا ليَستَحِمّ غاسِلا ومُكَفِّرًا.وكم من مُحاَمٍ جاءنا ليطهّر لسانا من كذب أولنقرّبه من ذي سلطان أو ذي مَالٍ أومن ذي بلاهة مُحِبّ للخصام عنيدٍ.وكم طبيبًا أرضانا بدواء كثير مسروق.وكم من مدير أدار مؤسسةً بصلاحِ رأينا فاستغنى وإن أفقرت.وكم من مُعلّم عَلّم تلاميذَه بما تعّلم عندنا فأفرخَ عِلمُه عن أدب وعلِم.وكم شرطيا اشترطت عليه صاحباتُنا كَفّا عفيفة ومالاً نظيفًا وعقلا شريفا.وكم مِن خطيب في تلك القاعة بلسانٍ من غسيل فرشنا وفِراشنا وكم ...وكَمْ....فهل كذبتُ فيما قلتُ؟ وإن شئتم زدتكم وصعدتُ بكم إلى الأعلى…
فطأطأ خلق كثير رؤوسهم ورفعت نساء رؤوسهن وصاح شباب:"زيدينا عشقا زيدينا.." فقالت
- الصّفحُ والعَفْوُ مِن أخلاقنا والصّدق فِي ذواتنا وأغلب أسراركم مكتومة في صدورنا وكلّكم رَاجِعٌ إلينا وأغلبكم مِنَّا فَلِمَ لكلّ تلاميذنا هؤلاء نِقابات ونحن ألمْعْمَاتْ" المعلّمات يَأَبَى علينا بعضُ القوم ذلك؟ أنحن قِلّة؟ أنحن قليل؟ أنحن عاطِلات؟ أنحن جاهلات؟ ألَسنا أوّلُ من يدفع الضّرائب ويحترم الواجبات؟ لا نريد سَنَدًا يَسْرِي إلينا.أَلَمْ تقولوا قد صَلُحَ الدهر الآن فدَعُوا النّفاق واتركوا الشقاق!نريد الاعتراف بنا طبقة شغيلة عاملة.نريد الاعتراف بنا- نريد الانخراط وسندفع عن غيرنا مِن الهيئات معاليم الاشتراكات إن ضاقت السبّل عن الاتحادات.أهَذا كرَمٌ علينا أم تكرّمٌ وتشرّف بنا...الصمود... الصمود...
وأعاد النساء نشيدهن الخاصّ بأعلى أصواتهن.وقبل أن يقتحم بعضُ الناس مَقّرَا اتحاد الشغل فَتَحَ رَجُلٌ ظريف أنيق ذو وجه مكور ورأس مستطيل وفم عريض بَابَ المقّرِوآبتسم للحاجّة"حبيبة" ابتسامة عَراقة .معرفةٍ وقديم تواصلٍ وتَوَادُدِ
وصاح ناسٌ كثيرون داخل القاعة وخارجها:"نُريد أن يكون الأمين العام "للاتحاد"من هذه . النِطاف النِّظاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق